من هم الصابئين، حين يمرُّ المسلم بتلاوة قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ﴾ (سورة البقرة، الآية 62)، فإنه قد يتوقف متأملاً من هم هؤلاء الصابئون؟، ولماذا ذُكروا في هذا السياق الكريم؟، ما هي عقيدتهم؟، وهل هم طائفة باقية إلى اليوم؟، وهل هذا الذكر لهم في مواضع متعددة من القرآن مدحٌ لهم، أم هو ذكر إخباري لا يتضمن حكمًا؟.
هذه الأسئلة ليست سطحية، بل تقودنا إلى رحلة معرفية تجمع بين علم التفسير، والحديث، والتاريخ، والعقيدة، وكلها تصبُّ في فهم هذه الطائفة التي كثر الجدل حولها، رغم قلة عددها، فدعنا نتعرف سويًا على المعنى العميق لما أراده الله حين ذكر “الصابئين” في سورة البقرة، وما ارتبط بذلك من معانٍ وأحكام.
موضع ذكر الصابئين في القرآن الكريم
ذُكر الصابئون في ثلاثة مواضع من كتاب الله:
سورة البقرة – الآية 62: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”
سورة المائدة – الآية 69: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ“
سورة الحج – الآية 17: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”
وقد اختلفت قراءات الآية، ففي بعضها “والصابئين” بالنصب، وفي الأخرى “والصابئون” بالرفع، وذلك حمل المفسرين على التوقف والتدقيق، لا في النحو فحسب، بل في المعنى المقصود بهذه الطائفة الغامضة نوعًا ما.
ما معنى كلمة الصابئين لغويًا؟
الكلمة مأخوذة من الجذر (صَبَأ)، ومعناه مال وخرج عن دين إلى دين. ومنه جاء وصفهم بأنهم “صابئون”، أي خرجوا من دينهم أو من دين إلى آخر.
قال الزمخشري في “الكشاف”: “الصابئ: الخارج من دين إلى دين، ولذلك قيل لمن خرج من دين اليهودية أو النصرانية إلى الإسلام: قد صبأ”، وهذا الاشتقاق سيُفيدنا كثيرًا عند التفريق بين الفرق المختلفة التي نسبت نفسها إلى الصابئة.
من هم الصابئين؟
اختلف العلماء في تحديد من هم الصابئة، ويمكن تلخيص أهم الأقوال في التالي:
طائفة موحدة تؤمن بالله ولكن لا تتبع شريعة محددة
ذهب إلى هذا الرأي ابن كثير والطبري، فقالوا: “الصابئون قوم ليس لهم شريعة، ولكنهم يؤمنون بالله وحده، لا نبي لهم”، وهذا القول يدل على أنهم موحدون بالفطرة، لكن لم يصلهم وحي أو شريعة واضحة، أو لعلهم قوم تركوا الأديان المعروفة.
طائفة بين المجوس واليهود والنصارى
قال القرطبي: “هم قوم من أهل العراق، وكانوا يتبعون الزهرة ويعبدون الكواكب، وهم بين اليهود والنصارى”، وبذلك يصبحون أشبه بالديانات السماوية التي دخلتها أفكار فلسفية قديمة، وربما كان لديهم كتاب أو بقايا من تعاليم سماوية.
الصابئة المندائيون
وهؤلاء طائفة لا تزال موجودة حتى اليوم في جنوب العراق، تؤمن بالتوحيد وتقدس النبي يحيى (عليه السلام)، وتغتسل بالماء طقسيًا بشكل منتظم، وقال بعض العلماء إنهم المقصودون في الآية الكريمة، خصوصًا أنهم يُصرحون في كتبهم بمعتقدات توحيدية، رغم وجود خلل في فهم بعض أركان التوحيد.
ما حكم الصابئين في الإسلام؟
هذه النقطة هي بيت القصيد، وقد تناولها العلماء من عدة جوانب:
هل هم من أهل الكتاب؟
قال الإمام الشافعي: “الصابئة لا كتاب لهم، فلا تؤخذ منهم الجزية إلا إن أسلموا.”
بينما قال أبو حنيفة: “إن ثبت أن لهم كتابًا سماويًا، فحكمهم حكم أهل الكتاب.”
ويُحتمل أن الآية الكريمة تُشير إلى طائفة منهم أقرب إلى أهل الكتاب، لا إلى المجوس أو عبدة النجوم.
هل في الآية مدح لهم؟
نعم، لكن بشرط الذي جاء في قول الله تعالى: “مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا”، والآية تدل على أن النجاة مشروطة بالإيمان والعمل الصالح سواء كان الشخص مسلمًا أو من هذه الطوائف، فليس المدح للطائفة في ذاتها، بل للفرد من أي دين إذا اجتمعت فيه تلك الصفات الثلاث.
لماذا ذُكر الصابئين في هذا السياق بالذات؟
لأن القرآن في سورة البقرة كان يرد على ادعاءات اليهود والنصارى بأنهم وحدهم الناجون، فجاء الرد الرباني الشامل بأن النجاة ليست حكرًا على طائفة، بل هي لكل من آمن وعمل صالحًا، سواء أكان من المسلمين أو من الصابئة أو غيرهم، ويُظهر لنا ذلك سعة رحمة الله، وعدله، وميزانه في الحكم بين الناس.
أقوال العلماء حول تفسيرهم عن من هم الصابئين
الإمام الطبري في “جامع البيان”:
قال رحمه الله: “والصابئون: قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم شريعة ولا نبي، وإنما هم عُبَّاد الملائكة، ويقرُّون بالنبيين جميعًا، ويُكثرون من الصلاة”، ثم أورد قولًا آخر عن ابن زيد: “هم قوم يعبدون الله وحده، لا نبوة لهم، ولم يُؤتَوا كتابًا”، وهذا يدل على اختلاف حالهم، فمنهم من على التوحيد، ومنهم من أشرك، فذُكروا في سياق الاختبار.
الإمام القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”:
قال رحمه الله: “الصابئون هم قوم بين المجوس واليهود، وقيل: هم قوم يعبدون الملائكة ويصلُّون إلى القبلة، ويقرؤون الزبور، ويقولون لا إله إلا الله، ليس لهم عمل إلا النظر والعبادة، وزعموا أنهم حنفاء”، وخلص إلى أن: “ذكرهم في هذا الموضع على جهة الاختبار: من ثبت منهم على التوحيد والعمل الصالح، فله أجره، ومن انحرف، فلا”.
الإمام ابن كثير في “تفسير القرآن العظيم”:
قال رحمه الله: “الصابئون فرقة من أهل الكتاب، وهم قوم يُشبه أمرهم أمر النصارى، إلا أنهم يُصلون إلى مهب الشمال، ويقرءون الزبور”، ثم نقل عن مجاهد أنهم: “قوم ليس لهم دين، وإنما هم مجوس”، وهذا التعدد في الأقوال يدل على الاضطراب في نسبتهم إلى شريعة معينة، ولهذا جاء النص القرآني بشرط الإيمان والعمل الصالح.
الإمام الرازي في “مفاتيح الغيب”:
قال رحمه الله: “الصابئون: طائفة ظهروا بعد نوح، وقبل إبراهيم عليهما السلام، وكانوا يقولون: لا ننفي ولا نثبت، فلسنا على يقين من شيء”، وأضاف: “وقد اختلف فيهم: هل هم من أهل الكتاب؟ والأرجح أنهم ليسوا كذلك”.
الإمام السعدي في “تيسير الكريم الرحمن”:
قال رحمه الله: “هؤلاء الأصناف الأربعة – المؤمنون، اليهود، النصارى، الصابئون – بيَّن الله أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فهو من الناجين، سواء كان من هذه الطوائف أم من غيرهم، فالمعيار هو الإيمان والعمل الصالح.”
الفرق بين الصابئين والمجوس والنصارى
رغم أن بعض الناس يخلط بين الصابئة والمجوس، إلا أن الآية في سورة الحج فرَّقت بينهم، فقال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”
الصابئة | المجوس | النصارى | |
التعريف | طائفة ورد ذكرها في القرآن، اختلف العلماء في تحديدها، وأقرب الأقوال أنهم بين اليهود والنصارى أو طائفة موحدة لا نبي لها. | أتباع زرادشت يعبدون النار، ويؤمنون بصراع النور والظلمة، انتشروا في فارس القديمة. | أتباع عيسى عليه السلام، يزعمون الإيمان بالله، ولكنهم وقعوا في التثليث. |
الكتب السماوية | قيل: لا كتاب لهم، أو لهم بقايا وحي من عهد آدم أو نوح، أو يتبعون الزبور فقط. | لا كتاب سماوي منزل من الله، وإن كان لهم كتب فلسفية مثل “الأفستا”. | يؤمنون بالإنجيل، ولكن الإنجيل الذي بأيديهم محرف ومبدَّل عن الأصل المنزل على عيسى عليه السلام. |
موقفهم من التوحيد | بعضهم موحد، وبعضهم يعبد الملائكة أو الكواكب، أو يخلط التوحيد بالشرك. | مشركون يعبدون النار، ويعتقدون أن العالم من خلق إلهين: النور والظلمة. | مشركون بالتثليث، مع غلاف ديني توحيدي ظاهري. |
هل لهم نبي؟ | لا نبي معروف لهم، وربما كانوا يتبعون شرائع سابقة على إبراهيم. | لا يعترفون بالأنبياء المرسلين، ويؤمنون بزردشت كنبي فلسفي أو مشرِّع أسطوري. | يؤمنون بعيسى عليه السلام، لكنهم غلوا فيه وقالوا: هو ابن الله أو الله. |
موقف القرآن منهم | ذُكروا ثلاث مرات في القرآن في معرض الامتحان، وعلِّق الحكم عليهم بالإيمان والعمل الصالح. | ورد ذكرهم في السنة النبوية، وأمر النبي ﷺ بأخذ الجزية منهم كأهل كتاب في المعاملة. | ذُكروا كثيرًا، وبيَّن القرآن كفرهم، خصوصًا في سورة المائدة. |
الحكم الشرعي | اختلف العلماء فيهم: هل هم من أهل الكتاب أم لا؟ والراجح: ليسوا من أهل الكتاب في زماننا. | يُعاملون معاملة أهل الكتاب في الجزية فقط، لا في النكاح أو الذبائح. | كفار، لكنهم أهل كتاب، تؤكل ذبائحهم ويجوز الزواج من نسائهم بشروط. |
الانتشار الحالي | قلة نادرة تسمى “الصابئة المندائيين” في جنوب العراق. | لا تزال طائفة المجوس موجودة في إيران والهند (الزرادشتيين). | انتشارهم واسع جدًا، في أوروبا والأمريكيتين وإفريقيا، بأطياف متعددة. |
✅الصابئة إذا ثبت أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وعملوا صالحًا، فهم على خير، وإلا فإنهم خارجون عن الإسلام.
✅المجوس رغم شركهم، فإن النبي ﷺ قبل الجزية منهم كما جاء في الصحيح، فقال: “سُنوا بهم سنة أهل الكتاب” (رواه مالك في الموطأ).
✅النصارى هم أقرب هذه الطوائف الثلاث إلى الإسلام من حيث الأصل، لكنهم انحرفوا بالتثليث، وقد بيّن القرآن كفرهم صراحةً، قال تعالى: “لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ۘ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۚ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (سورة المائدة، الآية 73)، ومع ذلك يُعاملون كأهل كتاب، ويجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
✅ الصابئة المذكورون في القرآن الكريم هم طائفة قديمة، كان بعضهم على الفطرة والتوحيد، وربما على بقايا من وحي سماوي، ولهذا ذكرهم الله في سياق من آمن وعمل صالحًا.
❌ أما الصابئة المندائيون اليوم، فلا يثبت أنهم على شريعة سماوية محفوظة، ولا يُعرف لهم نبي حقيقي أو كتاب منزل، كما أن عقائدهم منحرفة في باب التوحيد والنبوة والآخرة، ومن ثمَّ فإن حكمهم كغيرهم من المشركين أو الطوائف المنحرفة، ولا يُلحقون بأهل الكتاب إلا بجهل أو مجاملة.
قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (سورة آل عمران، الآية 85)، فالدين المقبول اليوم عند الله هو الإسلام، ومن كان على غيره، فلا نجاة له إلا إن بلغه الحق فآمن به، أما من ظل على الضلالة، فإن الله سيحاسبه بعدله وعلمه، ولا يظلم ربك أحدًا.
في الختام، نجد أن فهم من هم الصابئين في سورة البقرة ليس أمرًا ثانويًا، بل هو مدخل لفهم منهج الإسلام في التعامل مع الآخر، ومع الأديان المختلفة، ومع معيار النجاة الأسمى، فلقد أراد الله أن يُعلِّمنا أن:
-
الدين ليس شكلاً بل جوهرًا.
-
النجاة لا تتبع أسماء الطوائف، بل الإيمان الحق والعمل الصالح.
-
هناك من الطوائف من كان موحّدًا، ضل مع الزمن، لكن الله لم ينسهم في كتابه.
وما أجمل أن نُدرك أن القرآن حين يُنادي بهذه السعة في الفهم، إنما يُرسي لنا ميزانًا من الرحمة والعدل والإنصاف، لننظر إلى العالم بعين الفقيه الذي يزن الأمور بميزان الوحي، لا بموازين العصبية والانغلاق.
“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”
والله أعلم.
المصدر