الحلف الحرام من القضايا التي تناولتها الشريعة الإسلامية بكل حزمٍ لما له من أثر مباشر في زعزعة الثقة بين الناس، وتشويه سمعة المسلمين، وتكريس ثقافة الغش والاحتيال.
والحلف هو تأكيد أمرٍ ما بالقسم باسم الله أو صفاته، وورد في القرآن والسنة بوضوح التشديد على أهمية هذا الفعل وضرورة ألا يُستخدم إلا في المواقف الصادقة التي تستوجب ذلك، فاليمين ليست أمرًا يُستخف به بل هي عهدٌ بين العبد وربه.
أنواع الحلف الحرام
- اليمين الغموس
- اليمين الفاجرة
- اليمين المنعقدة المحرمة
- اليمين بالطلاق أو الظهار
- اليمين المتردد بين الحلال والحرام
1- اليمين الغموس:
اليمين الغموس هو الحلف بالله كذبًا أو زورًا بغرض تحقيق منفعة شخصية أو درء مفسدة على حساب الآخرين، وغالبًا ما يُستخدم للإضرار بهم أو أخذ حقوقهم بغير وجه حق.
وسُميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم، وكأنه قد ألقى بنفسه في ظلمات المعصية والخداع.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال:
“جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس” (رواه البخاري).
يُبين الحديث الشريف أن اليمين الغموس من الكبائر التي توازي الشرك بالله في خطورتها حيث يُعتبر الحالف بها قد تجاوز كل حدود الحلال والحرام لتحقيق غاياته الشخصية.
ويترتب على اليمين الغموس انتشار الغش والفساد، وفقدان الثقة بين أفراد المجتمع، وإمكانية شيوع المظالم، وصاحب هذا النوع من الحلف يُواجه غضب الله وعذابه، ويلقى الله وهو ساخط عليه، وحكمه من الكبائر.
2- اليمين الفاجرة:
هو الحلف بالله زورًا أو كذبًا، لكنه قد يكون أقل خطورة من اليمين الغموس حيث لا يكون الهدف منه الإستيلاء على حقوق الآخرين، وإنما يكون غالبًا لتحقيق غرض دنيوي زائف، كالكذب في المبايعات أو المواقف الاجتماعية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“اليمين الفاجرة تذهب المال” (رواه البخاري).
يُوضح الحديث أن اليمين الفاجرة تؤدي إلى هلاك المال ونزع البركة منه، وذلك لأن الحالف بها يستخدم اسم الله بلا حق وبلا خشية، مما يجلب عليه الحرمان والخسران.
ويترتب عاى اليمين الفاجرة ذهاب البركة من المال والعمل، وعدم التوفيق في السعي، ويُعرض صاحبها لغضب الله، ويواجه الحساب على أفعاله في الآخرة، وحكمه حرام شرعًا ويعد إثمًا.
3. اليمين المنعقدة المحرمة:
وهو أن يحلف الشخص بالله على فعلٍ ما ثم يخالف يمينه بعد انعقادها كأن يحلف على أمر يعرف في قرارة نفسه أنه لن يفعله، أو يحلف متعمدًا أن يُخلف بيمينه.
قال الله تعالى في سورة البقرة (آية 224):
“وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ”.
وهنا تُشدد الآية على ألا يتخذ المسلم اسم الله كوسيلة للتخلي عن واجباته تجاه الآخرين أو تجاه الله، وألا يستخدم الحلف كعذر لقطع الرحمة أو إلحاق الضرر بغيره.
فتعود الإنسان على الكذب والاحتيال في أفعاله وأقواله يؤدي إلى هدم أواصر المحبة والاحترام بين الناس، ويتعرض الحالف لهذا النوع من الأيمان المحرمة لعقاب الله، ووهو حرام شرعًا ويجب على فاعله التوبة وكفارة يمينه بإطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام في حال العجز.
4- اليمين بالطلاق أو الظهار:
وهو حلف بهدف تهديد الزوجة أو إجبارها على أمر معين، وقد يكون هذا النوع من الأيمان محل خلاف بين العلماء، ولكن أجمع العلماء على التحذير منه حيث يُعد الطلاق وسيلة لتهديد الروابط الأسرية ولا يُفترض استخدامه كأداة ضغط لتحقيق غرض معين.
ونهى النبي ﷺ عن الحلف بالطلاق أو الظهار، وأكد على أن الطلاق ليس وسيلة تهديد وإنما حق شرعي يجب استخدامه بوعي ومسؤولية.
الحلف بالطلاق أو الظهار يدمر العلاقات الزوجية ويُشتت الأسرة، كما يتعرض صاحبه للعقاب من الله عز وجل، وحكمه حرام شرعًا ووجوب الكفارة والتوبة في حال اللجوء إلى هذا النوع من الحلف.
5- اليمين المتردد بين الحلال والحرام
هو حلف المسلم على أمر يشك في صحته أو يكون في منطقة غير واضحة بين الحق والباطل، والبعض يقوم بهذا النوع من الحلف في أمور لا يعلمونها علمًا يقينيًا، وذلك يجعل الحلف عرضةً للكذب، وإن كان الحالف لا يقصد ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال:
“اترك ما يريبك إلى ما لا يريبك” (رواه الترمذي).
ويُوضح النبي في الحديث أن ترك الشبهات هو الخيار الأفضل للمسلم حيث يقيه ذلك من الوقوع في المحظور ويبعده عن الحلف بما لا يعلم يقينًا.
وهذا النوع من الحلف يُقع المسلم في منطقة الشبهات التي تحيطه بالإثم دون أن يُدرك حجم ذلك، ويجعله ذلك يُحاسب على فعله.
أدلة تحريم الحلف الحرام في القرآن
- سورة النحل، آية 94:
“وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا”
تُحذر هذه الآية من استخدام اليمين كوسيلة لخداع الآخرين أو كأداة لتحقيق غايات شخصية غير مشروعة حيث يؤدي ذلك إلى انحراف الناس عن الحق، ويفسد أخلاقهم، ويُعرضهم لعذاب الله.
- سورة البقرة، آية 224:
“وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ”
جاء النهي هنا واضحًا حيث يحث الله عباده على تجنب استخدام اسمه في اليمين إلا للضرورة القصوى، وعدم اللجوء إليه كحجة لعدم الوفاء بالخير أو لتحقيق منافع خاصة.
أدلة التحريم من السنة
- حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:
“من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان” (رواه البخاري ومسلم).
يؤكد الحديث على شدة خطورة الحلف الكاذب، خاصةً عندما يتعلق بحقوق الناس وأموالهم، ويلقى الحالف غضب الله يوم القيامة.
- حديث آخر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“اليمين الغموس تذر الديار بلاقع” (رواه الطبراني في الكبير).
يشير الحديث إلى أن اليمين الغموس يأتي بالخراب على صاحبه، حيث أن من يتعمد الكذب في يمينه يُعاقب بزوال النعمة والبركة من حياته.
كيفية الكفارة عن الحلف الحرام
إذا حلف المسلم يمينًا باطلاً ثم أراد أن يتوب إلى الله، فإنه يمكنه الكفارة عن يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام، وذلك لقوله تعالى في سورة المائدة (آية 89):
﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
الحلف بغير الله
الحلف بغير الله هو حلف المسلم بأي شيء سوى الله سبحانه وتعالى سواء كان ذلك شخصًا، كالنبي عليه الصلاة والسلام، أو مخلوقًا مثل السماء أو الأرض، أو قيمًا مثل الأمانة والشرف.
وتأتي خطورة هذا النوع من الحلف في أنه يُنافي مبدأ التوحيد الخالص الذي يقوم عليه الدين الإسلامي، كما أنه فيه تعظيم لغير الله، والذي يُمكن أن يصل إلى مرتبة الشرك الأصغر أو الأكبر حسب اعتقاد الشخص المعني.
أدلة تحريم الحلف بغير الله من القرآن والسنة
لم يرد في القرآن الكريم تحريم صريح للحلف بغير الله، لكن في مواضع عديدة أشار إلى ضرورة تخصيص القسم بالله فقط، وهو ما يستفاد منه تحريم الحلف بغيره.
أما في السنة النبوية فهناك العديد من الأحاديث التي تحرم الحلف بغير الله منها:
- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“من كان حالفًا، فليحلف بالله أو ليصمت” (رواه البخاري ومسلم).
أمرنا النبي هنا بوجوب الاقتصار على الحلف بالله أو الامتناع عن الحلف كليًا،وذلك يُشير إلى عدم جواز الحلف بغيره.
- حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
“من حلف بغير الله فقد أشرك” (رواه أبو داود والترمذي).
يشير الحديث بوضوح إلى أن الحلف بغير الله يُعد نوعًا من الشرك الأصغر، حيث يضع الشخص المخلوق في مرتبة التعظيم كالله سبحانه وتعالى.
حكم الحلف بغير الله
اتفق العلماء على أن الحلف بغير الله محرم حيث يُعد من الشرك الأصغر لأنه يُظهر تعظيم غير الله، إلا إذا كان الحالف يعتقد أن الشيء الذي يحلف به يمتلك قدرة إلهية، فهنا يصبح الحلف شركًا أكبر.