سورة الانشقاق من السور المكية التي تتناول مشاهد يوم القيامة وأحوال الناس فيها بأسلوب بليغ يعكس روعة القرآن وبلاغته.
وتبدأ السورة بوصف لحظة انشقاق السماء وتحول الأرض، فتتجلى مشاهد الانهيار الكوني كأحد علامات النهاية حيث تتهيأ السماوات والأرض لأمر الله بطاعة تامة.
تنتقل السورة بعد ذلك للحديث عن مصير الناس وأعمالهم، فتصف الفرق بين من يسعد بحسنات أعماله حين يتلقى كتابه بيمينه ومن يحزن حين يتلقى كتابه وراء ظهره ويجد حصيلة سوء أفعاله.
سورة الانشقاق مكتوبة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَن يَحُورَ بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
تفسير بعض المفردات الواردة بالآيات:
أَذِنَت : سمعت. حُقَّت : أطاعت.
مُدَّت : بسطت. وَتَخَلَّت : أخرجت الموتى من بطنها.
كَادِحٌ : عامل دائب. ثَبُورًا : هلاكًا وويلًأ.
يَحُورَ : يرجع. الشَّفَقِ : حمرة السماء عند الغروب.
وسَقَ : ضم ولف. اتَّسَقَ : استوى وتم.
لَتَركَبُنَّ : لترون. طَبَقٍ : هولًا.
يُوعُونَ : يُخفون. مَمنُونٍ : منقوص.
تدبر آيات سورة الانشقاق
في آيات سورة الإنشقاق يتضح أنها صورت الإنقلاب الهائل، وأن تعب الإنسان مآله الحساب عليه في الآخرة، كما أكدت السورة على وقوع أهوال الآخرة بالقَسم، وفيها تم توبيخ المشركين على عدم إيمانهم بالله.
تصوير السورة للانقلاب الهائل
بدأت السورة الكريمة بذكر بعض مشاهد الآخرة وصورت الانقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة وما يحدث من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال، فكيف إذا تشققت السماء وتصدعت مُعلنة خراب الكون؟.
فالسماء قد استمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحق لها أن تسمع وتطيع، والأرض كذلك زادت سعة بإزالة جبالها وصارت مستوية لا جبال فيها ولا بناء كما أنها رمت ما في جوفها من الموتى وتخلت عنهم وألقت كل ما في بطنها، كما تُلقي الحامل ما في بطنها من الحمل، وكل ذلك ليس إلا استماعًا لأمر ربها وطاعة له، وحق لها أن تسمع وتُطيع.
انظر إلى استسلام السماء واستسلام الأرض كيف هو استسلام كله طواعية وخشوع ويسر؟ وفي ذلك ترقيق لقلب الإنسان وإلقاء للخشوع في حسه.
وهذا الإستسلام هو استسلام كوني لا إلتواء فيه ولا مماطلة يحرص الإنسان على التوافق معه، وأن يطيع ويخشع من غير معارضة.
تعب الإنسان في الدنيا مآله الحساب عليه في الآخرة
بعد حدوث الانقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة يلقى الإنسان من الشدائد والأهوال ما لا يتخيله عقل، فهذا الإنسان يكد ويتعب ويجتهد ولا راحة له في الدنيا، إنما الراحة في الآخرة وهي فقط لمن يقدم الطاعة والإستسلام لله.
يعمل الإنسان وهو يقدم لآخرته في الواقع إما خيرًا أو شرًا، فيجد ما قدم يوم يلقى الله عز وجل، فيجد عنده الجزاء العادل يوم يكافئه على عمله إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًا فشر، والإنسان يؤمئذٍ إما سعيد أو شقي.
يلقى السعيد كتاب أعماله بيمينه ويحاسب حسابًا هينًا يسيرًا حساب عرض دون مناقشة فيه جزاء على الحسانات وتجاوز عن السيئات، فيرجع هذا السعيد إلى أهله في الجنة مبتهجًا مسرورًا بما أعطاه الله له من الفضل والكرامة.
وأما من أُعطي سجل أعماله بشماله من وراء ظهره، فذلك هو الشقي الذي سيصبح متمنيًا الهلاك والموت، فلقد أيقن أنه سيدخل نار مسعرة يُقاسي عذابها وحرها إنها التعاسة التي ليست بعدها تساعة والشقاء الذي ليس بعده شقاء.
لقد ظن الإنسان أنه لن يرجع إلى ربه وأن الله لن يحييه بعد موته ولم يهتم بالآخرة والحساب والجزاء، فلذلك كفر وفجر، ولكن الله عز وجل، لكن الله سيعيده بعد موته ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها، فهو سبحانه وتعالى مطلع على كل عبد من العباد لا تخفى عليه خافية.
تأكيد وقوع أهوال الآخرة بالقسم
جاء القسم مؤكدا حتى يقر في وجدان الناس حتمية ملاقة هذه الأهوال ومعايشة هذة الأحوال، فإنها حتمية كأنها الحقيقة لا تحتاج للقسم.
وجاء في السورة القسم بالشفق وهو حُمرة الأفق عند غروب الشمس، ولحظة الغروب هي اللحظة التي يُحس فيها القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى، كما أنها اللحظة التي يحس فيها القلب برهبة الليل القادم ووحشة الظلام.
وهناك قسم آخر في السورة وهو القسم بالليل حيث يلف الليل في ظلمته ويجمع ويخفي كل ما كان منتشرًا في النهار، وخفاء الأمور في ظلام الليل يُلقي في القلب هواجس وقلق يتناسب مع ما يكون في قلب من أقبل على أول منازل الآخرة، ذلك الذي جُمع عمله وطُوي كتابه ومصيره لم يتضح له بعد.
وجاء القسم بالقمر إذا تكامل نوره وصار بدرًا ساطعًا حيث أن لحظة سطوع نور القمر في وسط ظلمة الليل هي لحظة كشف بعد خفاء، وكذلك يتضح لكل إنسان وينكشف له مصيره أهو في الجنة أم في النار؟فيا له من قسم موحٍ! فإنه يُشير إلى أن كل شيء سيُعرف ويُرى تمامًا، كما يكشف نور القمر ما أخفته ظلمة الليل بعد أن يبددها، وكل هذا القسم لمعشر الناس بأنهم سيلاقون أهوالًا وأحوالًا وشدائد عصيبة هي في الشدة طبقات فوق بعضها.
توبيخ المشركين على عدم إيمانهم بالله
خُتمت السورة الكريمة بتوبيخ المشركين على عدم إيمانهم باللهعز وجلوعدم التصديق بالبعث بعد الموت مع وضوح آياته وسطوع براهينه ولعدم خضوعهم للرحمن حين يسمعون القرآن.
يجمع الكفار في صدورهم التكذيب والعناد والجحود، وهذا أمر معلوم لله عز وجل الذي يعلم ما يُضمرون من عداوة للرسول وللمؤمنين، ثم وضع الله البشارة في مقام الإنذار تهكمًا، فقال بحق المكذبين: “فَبَشِّرهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ”.
أما الذين صدقوا الله عز وجل وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الذين جمعوا بين الإيمان وصالح الأعمال، فلهم ثواب في الآخرة دائم مستمر غير منقوص ولا مقطوع، وهذه هي نهاية المؤمنين الذين كدوا في الدنيا وكانوا من المجاهدين الصالحين، وتلك نهاية أعدائهم الذين أضمروا العداوة إنهم نهبوا أيضًا، ولكنهم تمتعوا وكانوا مسرورين في الدنيا.
المؤمنين اليوم في نعيم يمسح عنهم كل عناء وجدوه في الأرض وغيرهم في عناء يُنسيهم كل نعيم تذوقوه في الدنيا.