هل تعلم ما الذي أبكى رسول الله ﷺ؟، حين تُذكر الدموع يخطر ببالنا الضعف أو الألم، أو ربما لحظة حزن تمر سريعًا، لكن عندما نسمع أن رسول الله ﷺ – وهو أشرف الخلق، وأقواهم قلبًا، وأكثرهم توكلًا – قد بكى، فإننا لا بد أن نتوقف طويلًا.
ما الذي أبكى قلبًا اختاره الله لحمل أعظم رسالة؟ ما الذي أدمع عيني نبيٍ كانت حياته كلها لله؟
هل كانت الدموع لحزن شخصي؟ أم لخوف على أمته؟ أم من خشية رب العالمين؟
سنتعرف في هذا المقال ونستكشف اللحظات التي بكى فيها الرسول ﷺ، وما تحمله من عِبر، وعِظات، وتأملات روحية تهز القلوب.
ما الذي أبكى رسول الله ﷺ؟
هل كان النبي ﷺ كثير البكاء؟
لم يكن النبي ﷺ بكاءً بلا سبب، ولم يكن جامد القلب أيضًا، بل كان ألين الناس قلبًا، وأرقّهم شعورًا، وأشدهم خشية لله، فعن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: «أتيت النبي ﷺ وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء» (رواه أبو داود وصححه الألباني).
كان يبكي إذا سمع القرآن، وإذا دعا لأمته، وإذا تذكر الموت، وإذا قام الليل، وإذا توفي أحد من أحبَّائه، وعندما مر بقبر أمه… لم يكن بكاؤه ضعفًا، بل كان قمة القوة والصدق مع النفس ومع الله.
المواقف التي بكى فيها الرسول ﷺ
بكى عند سماع القرآن
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال لي النبي ﷺ: «اقرأ عليَّ القرآن»، قلت: آقرأ عليك وعليك أُنزل؟، قال: «إني أحب أن أسمعه من غيري»، فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ (سورةالنساء، الآية 41)، قال: «حسبك الآن»… قال ابن مسعود: فنظرت إليه، فإذا عيناه تذرفان (رواه البخاري ومسلم).
لحظة مهيبة… يتأثر ﷺ بالآية التي تذكره بموقف الشهادة على أمته يوم القيامة، فتفيض عيناه بالدموع، فهل فكرنا يومًا أن هذه الشهادة لها ثمن؟ وأن نبيَّنا سيقف ليشهد علينا؟ فهل نستحق شهادته؟.
بكاء النبي ﷺ من خشية الله في قيام الليل
كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، مع أنه غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فعن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: «أتيت النبي ﷺ وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء» (رواه أبو داود وصححه الألباني).
ورويَّ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سُلت عن أعجب ما رأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت: لَمَّا كان ليلةٌ مِن اللَّيالي قال: “يَا عَائِشُةُ ذَرِيني أَتَعبَّدِ اللَّيلةَ لِربِّي” قُلْتُ: واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك وأُحِبُّ ما سرَّك قالت: فَقَامَ فَتَطَهَّر ثُمَّ قام يُصَلِّي قَالَت: فَلَم يَزَلْ يَبكِي حَتَّى بَلَّ حِجرَه قَالَت : ثُمَّ بَكَى فَلَم يَزَلْ يَبكِي حَتَّى بَلَّ لِحيتَه قَالَت : ثُمَّ بَكَى فَلَم يَزَلْ يَبكِي حَتَّى بَلَّ الأَرضَ فَجَاء بِلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فَلَمَّا رَآه يَبكِي قال : يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر ؟ قال : “أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (سورة آل عمران، الآية 190] ) الآيةَ كلَّها.
إنها دموع العبودية الحقة، دموع من يعرف ربه، ويخشاه خشية المحبين.
بكى عند وفاة ابنه إبراهيم
لما مات ابنه الصغير إبراهيم، دخل عليه وهو يجود بنفسه، فحمله بين يديه، ودموعه تتساقط، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دَخَلْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وكانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ، فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: “يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ” (رواه البخاري ومسلم).
هل رأيت أعظم من هذا التوازن؟ دمعة حزن لكنها لا تُخرج العبد عن التسليم بقضاء الله.
بُكائه شوقًا لأمته
نعم، بكى النبي ﷺ لأجلك، ولأجلي… نحن أمته التي لم نرَه، ومع ذلك كان يحبنا ويخشى علينا، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّمَ تَلا قَوْلَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبْراهِيمَ: {رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فمَن تَبِعَنِي فإنَّه مِنِّي} (سورة إبراهيم، الآية 36) الآيَةَ، و ثُمَّ تَلَا دعوة عِيسَى عليه السَّلامُ فِي حَق أُمتُه: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبادُكَ وإنْ تَغْفِرْ لهمْ فإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (سورة المائدة، الآية 118)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: “اللَّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتِي”، وبَكَى، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، ورَبُّكَ أعْلَمُ، فَسَلْهُ ما يُبْكِيكَ؟ فأتاهُ جِبْرِيلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَسَأَلَهُ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بما قالَ، وهو أعْلَمُ، فقالَ اللَّهُ: يا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ، ولا نَسُوءُكَ.(رواه مسلم)
ما هذا الحنان؟ ما هذه الرحمة؟، نبيٌّ لا يفكر بنفسه، بل بأمته التي لم تأتِ بعد.
بكى عند قبر أمه
خرج النبي ﷺ إلى الأبواء (بين مكة والمدينة)، فوقف عند قبر أمه، وبكى بكاءً مريرًا، فعن أبو هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي ﷺ قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: “استَأذَنتُ رَبِي أَن أَزُورَ قَبرَ أُمِّي، فَأَذِنَ لِي، واستَأذَنتَهُ أَن أَستَغفِرَ لَهَا، فَلَم يَأذَن لِي، فَزُورُوا القُبُورَ ، فَإِنهَا تُذَكِّرُ المُوتَ ” (رواه مسلم).
ما أعظم هذا الوفاء، فرغم مرور السنين، ورغم أنها ماتت وهو صغير، إلا أن الحنين في قلبه ﷺ لا يموت.
بكى عند دفن الصحابة
حين دُفن أحد الصحابة جلس النبي ﷺ عند قبره يبكي، فعن البراء بن عازب قال: «كنا مع رسول الله ﷺ في جنازة، فجلس عند القبر وجعل يبكي، وقال: “يَا إِخوَانِي، لِمِثلِ هَذَا فَأَعِدُّوا”» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
بُكاء لا يُنسى… بُكاء تذكير بالمآل… بُكاء تحذير من الغفلة.
بكائه على وفاة زوجه خديجة رضي الله عنها
لم تكن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها مجرد زوجة، بل كانت السند الأول، والروح التي أحاطت نبوته بالسكينة، وحين توفيت حزن النبي ﷺ حزنًا عميقًا، وسمِّيت تلك السنة عام الحزن.
وكان إذا ذُكرت خديجة بعد وفاتها، يَدمع ويقول عنها ما لا يقوله عن غيرها، بل كان يهدي الهدايا لصديقاتها وفاءً لها، وورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما غِرت على أحد من نساء النبي ﷺ ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي ﷺ يكثر ذكرها… وكان إذا ذبح شاة، يقول: “أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة”… فقلت له: “كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟”، فقال: “إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد” (رواه البخاري).
دروس مستفادة من مواقف بكاء الحبيب ﷺ
- البكاء ليس نقصًا في الرجولة، فرسول الله ﷺ كان أكمل الناس رجولة وهيبة وشجاعة، ومع ذلك لم يخجل من دموعه.
-
البكاء طُهْرٌ للنفس، فعين تبكي من خشية الله، لا تمسها النار، فعن النبي ﷺ قال: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله» (رواه الترمذي وصححه الألباني).
-
الحزن لا يُخالف الرضا، فحين بكى النبي ﷺ لفقدان إبراهيم، قال: «وإنا على فِراقك يا إبراهيم لمحزونون»، ومع ذلك قال: «ولا نقول إلا ما يرضي ربنا»، فالبكاء لا يُناقض التسليم لقضاء الله، بل يُعبر عن صدق الإنسانية.
هل بكى الرسول شوقا لرؤيتنا؟
لا يوجد دليل من السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى شوقًا لرؤيتنا، ولكن ما ورد هو اشتياق النبي ﷺ لرؤيتنا، فعن أنس بن مالك قال أن النبي ﷺ قال: «وددتُ أني لقيت إخواني»، فقال الصحابة: أوَ لسنا إخوانك؟، قال: «أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني» (رواه مسلم).
*بكاء النبي ﷺ ليس ضعفًا بل عِزة، ودليل صدق الإيمان وحرارة القلب، والحسن البصري قال: “كانوا يبكون من الخوف، ونحن نبكي من قسوة القلوب، ولو أن القلب صفا، لبكى من الشوق لا من الخوف فقط”، فمن يبكي خشية الله، فقد اقترب، ومن تدمع عينه من حب النبي ﷺ، فقد أحبه.
إذا بكى النبي من خشية الله، فكيف بنا؟
وإذا بكى فزعًا من يوم القيامة، ونحن نؤخر الصلاة ونستهين بالذنوب؟
في الختام، أيها القارئ العزيز، بعد أن عرفت ما الذي أبكى رسول الله ﷺ، هل تأثرت؟ هل شعرت أن قلبك يريد أن يلين؟ هل شعرت بمدى حب النبي لك، وخوفه عليك؟
قال ابن القيم: “الدمعة النابعة من قلب خاشع، أحب إلى الله من طاعات الجوارح كلها”، فإذا أردت أن تتبع النبي حقًا، فلا يكفي أن تقرأ سيرته، بل لتبكِ كما بكى، ولتحب كما أحب، ولتخشَ كما خشي.
اللهم ارزقنا قلبًا رقيقًا، وعينًا باكية، ونفسًا تائبة، وشفاعة نبيك يوم لا ينفع مال ولا بنون.
اللهم ارزقنا قلبًا خاشعًا، وعينًا باكية، ونفسًا مطمئنة.
اللهم اجعلنا ممن يُبكيهم القرآن، وتُرقّ قلوبهم عند الذكر،
اللهم لا تحرمنا من شفاعة نبيك، ولا من لقائه على الحوض.
اللهم كما بكى علينا، فاجعلنا ممن يبكون حبًا له واتباعًا لسنته.