الحياء في الإسلام، الحمد لله الذي جعل الحياء زينةً للإنسان ووقارًا للمؤمنين، وفضيلةً تجمع بين جمال الخُلق ونقاء السريرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيدُ من تحلَّى بالحياء وأمر به.
الحياء في الإسلام من شعب الإيمان وأساس الفضائل، كما قال النبي ﷺ: “الحياء شعبة من الإيمان” (رواه البخاري)، وهو زاد المسلم في تعامله مع ربه ومع نفسه ومع الخلق، ويحميه من الوقوع في المعاصي، ويهديه إلى طُرق الطاعة والرضا.
نتناول في هذا المقال معنى الحياء ومكانته في الإسلام، ونستعرض مظاهره في حياة الفرد والمجتمع، ونُبيِّن الوسائل العملية لاكتسابه، ونسأل الله أن يجعلنا من أهل الحياء الذين قال فيهم رسول الله ﷺ: “إن لكل دين خُلقًا، وخُلُقُ الإسلام الحياء” (رواه ابن ماجه).
معنى الحياء في الإسلام ومكانته
الحياء في اللغة هو انقباض وانزواء، وتغيُّر المرء خوف ما يعاب به، أما الحياء في الشرع هو صفة أو خُلق يكون في النفس، فيبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ – أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ.” (رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)، فالمستحي ينقطع بالحياء عن المعاصي، ويحول بين المؤمن وبينها، وإنما جُعل الحياء بعض الإيمان؛ لأن الإيمان يؤدي إلى الائتمار بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان.
والحياء في الإسلام خُلق رفيع، ومن أعظم الصفات التي يتصف بها المسلم والمسلمة، كما أنه من أسمى الفضائل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله الخُلق المميز للمسلمين، حيث قال: “إن لكل دين خُلقًا، وخُلُقُ الإسلام الحياء” (رواه ابن ماجه)، كما رفع النبي صلى الله عليه وسلم من شأن الحياء، وأَعلى من قيمته، وأكد أن الخير كل الخير، والفلاح كل الفلاح إنما يكون في الاتصاف والتحلي بالحياء، حيث قال صلى الله عليه وسلم: “الحياء خيرٌ كله” (رواه مسلم)، وقال: “الحَيَاءُ لَا يَأتِي إِلَّا بِخَيرٍ” (رواه البخاري).
والأصل عند المؤمن أن يراعي الأمور الشرعية أولًا، فالحياء هو الانقباض عما يُعد عيبًا في نظر الشرع، وإن لم يُعده الناس عيبًا، كذلك ما يراه بعض الناس حياءً، ويصفون فاعله بأنه يستحي حين لا يواجه أصدقائه بما يرتكبون من معاصي، ويترك واجب النصيحة إجلالًا لهم، أو استبقاءً لمودتهم، ويجاملهم على حساب الشرع والدين، فهذا لا يُعد حياء، بل يُسمى جنبًا وضعفًا.
أنواع الحياء في الإسلام
الحياء منه ما هو فطري، ومنه ما هو مكتسب.
الحياء الفطري
وهو الذي خلقه الله سبحانه وتعالى في جميع النفوس قبل أن يعرض لها ما يُلوث فطرتها؛ كالحياء من كشف العورة.
الحياء المكتسب
يأتي الحياء المكتسب عن طريق الإيمان بالله عز وجل والإيمان بدينه، وتعلم الآداب والأخلاق الحميدة، وذلك الحياء المكتسب هو الذي يمنع المؤمن من فعل المعاصي خوفًا من الله عز وجل.
ولا شك أن الحياء الكامل يسبقه استعداد فطري، فإن هناك طبائع تكاد الوقاحة تكون لازمة لها، في الوقت الذي نرى فيه بعض الناس شديد الخجل مرهف الإحساس إلى حد بعيد، لكن الخجل مع أنه العنصر البارز في الحياء يقع في الخير والشر، وقد يجر صاحبه إلى ورطات سيئة، أما الحياء فلا يكون إلا في الحدود المشروعة.
وصف الحياء في الإسلام
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: “استحيوا من اللهِ حقَّ الحياءِ.” قال: قلنا: يا رسولَ اللهِ، إنَّا نستحيي والحمدُ للهِ. قال: “ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياءَ من اللهِ حقَّ الحياءِ أن تحفَظَ الرأسَ وما وعى، والبطنَ وما حوى، ولتذكُرَ الموتَ والبِلى، ومَن أرادَ الآخرةَ تركَ زينةَ الدنيا، فمَن فعل ذلك استحيا من اللهِ حقَّ الحياءِ.” (رواه الترمذي).
يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حقيقة الحياء في صورته المثلى، التي تشمل الحواس الظاهرة والباطنة، فضلًا عن شعور إيماني لو سيطر على سلوك المسلم لجعله متصفًا حقًا بالحياء الكامل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين أن يستحوا من الله حق الحياء، فتأتي إجابة صحابته رضوان الله عليهم إجابة مطابقة لأحوالهم الحقيقية: إنا نستحي، فهم أهل العدالة والصدق، وعقبوا بحمد الله عز وجل الذي هداهم لذلك، ووفقهم إلى وجود الحياء في نفوسهم، وهنا يُبين النبي صلى الله عليه وسلم، ويكشف الحقيقة: “ليس ذاك”، ثم يستطرد صلى الله عليه وسلم في بيان المطلوب… حق الحياء.
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الحياء الحق يتحقق في النفس إذا تحققت فيه أربع أمور، وهي:
- حفظ الرأس وما وعى.
- حفظ البطن وما حوى.
- ذكر الموت والبلى.
- ترك زينة الدنيا.
حفظ الرأس وما وعى، وكيف يكون؟
الاستحياء من الله حق الحياء يكون بحفظ الرأس عن استعماله في غير طاعة الله، بألا نسجد لغيره، ولا نخضع به لغير الله، ولا نرفعه تكبرًا، وما يكون أيضًا بحفظ ما اشتمل عليه هذا الرأس من لسان وعين وأذن، عما لا يحل استعماله، ويشمل أيضًا العقل وما يودع فيه من معلومات، وما يصدر عنه من إشارات.
كيف نحفظ الرأس وما وعى؟
- عدم إحناء الرأس إلا لله، وعدم الالتفات في الصلاة.
- غض البصر عن المحرمات، وعدم التجسس.
- النظر والتفكر في الكون، والتدبر في قدرة الله سبحانه وتعالى.
- البعد عن سماع المحرمات من غيبة ونميمة وفُحش.
- الإعراض عن اللغو، والإقبال على سماع القرآن والعلم.
- الامتناع عن الخمور والمخدرات وكل ما يُعطل العقل.
حفظ البطن وما حوى، وكيف يكون؟
يكون الاستحياء من الله حق الحياء بحفظ البطن عن ملئه بما حرم الله عز وجل، وقد يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بالبطن هنا بما أبطنه الإنسان، وهو عكس ما ظهر منه، ويمكن أن يقصد به الجهاز الهضمي وما يلحق به، وتُشير به العرب أيضًا إلى القلب والفرج.
كيف نحفظ البطن وما حوى؟
- شكر الله سبحانه وتعالى على نعمه.
- تطهير القلب من الكفر والشرك بالله، ومن النفاق، ومن عامة الأمراض القلبية مثل الكبر، والرياء، والعُجب، والحسد، وكراهية المؤمنين، والحقد عليهم، وحب الظهور.
- الحرص على الطعام والشراب الحلال.
- الالتزام بالسنة في الطعام والشراب، فنجعل الثلث للطعام، والثلث للشراب، والثلث للنفس.
- حفظ الفرج من كل ما يؤدي إلى المعصية.
- الامتناع من كثرة الضحك التي تُميت القلب.
ذكر الموت والبِلَى
ويكون الاسحياء من الله حق الحياء أيضًا بتذكر الموت والبِلَى (فساد الجسد وتحلله بعد الموت)، وتذكر الموت وتحلل الجسد بعد الممات من الأمور التي تُعين الإنسان على تقوى الله عز وجل، وتدفعه إلى التفكر في الحقيقةالتي وُجد من أجلها، فالله تعالى يقول في كتابه الكريم: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ” (سورة المؤمنون، الآية 115)، ويقول أيضًا: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (سورة الذاريات، الآية 56)، فإذا تذكر الإنسان ذلك ساعده على نمو الحياء في قلبه، وسيطر على جوارحه وفكره.
فالموت وحده كفيل أن يدفع أصحاب العقول إلى تحسين صورتهم، والسمو بأنفسهم عن الأفعال الدنيئة، فإن الإيمان بالموت هو الحقيقة التي يجب أن تكون مؤدية إلى يأس الإنسان من ارتكاب كل معصية، وتدفع به إلى المسارعة إلى كل فضيلة.
كيف نذكر الموت والبِلَى؟
- تَذكر أحوال الاحتضار والقبور ومشاهد يوم القيامة دائمًا.
- الحرص على زيارة المرضى والمبتلين للاعتبار والاتعاظ.
ترك زينة الدنيا، وكيف تكون؟
لا يُحرم الإسلام زينة الدنيا التي أخرجها الله لعباده، ولكنه يمنع أخذها من حرام، أو استخدامها في حرام، فالله تعالى يقول في كتابه الكريم: “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَـٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ ۚ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةًۭ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْـَٔايَـٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ ٱلْفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلْإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا۟ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَـٰنًۭا وَأَن تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)” (سورة الأعراف، الآية 32-33)، ولهذا كان دعاء المؤمنين: “وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” (سورة البقرة، الآية 201).
كيف نترك زينة الدنيا؟
- الامتناع نهائيًا عن المحرمات، وعدم الإكثار من المباحات.
- حمد الله على ما قدره لك من رزق.
- قلة النظر إلى أهل النعم في الدنيا وتمني ما عندهم.
- سؤال الله عز وجل النعيم في الآخرة.
الحياء في الإسلام وأثره على المسلم والمجتمع
أثر الحياء على المسلم
تقوية العلاقة بالله تعالى
الحياء من الله يدفع المسلم إلى اجتناب المحرمات وأداء الواجبات. فقد بيّن النبي ﷺ في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك استحيا من الله حق الحياء” (رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب).
تهذيب النفس وحفظها
الحياء يُبعد المسلم عن الوقوع في الفواحش والذنوب، ويُعزز من وقاره واحترامه لذاته، فيعيش حياة نظيفة طاهرة تنعكس على سلوكه وأخلاقه.
تحقيق الاتزان النفسي
المسلم الذي يتحلى بالحياء يعيش في طمأنينة، لأنه يراقب الله في سره وعلانيته، فلا يخاف إلا من ربه.
أثر الحياء على المجتمع
نشر الأخلاق الفاضلة
إذا تحلى أفراد المجتمع بالحياء سادت الأخلاق الحميدة، وانتشرت الفضائل بين الناس، وذلك يحقق الاستقامة الاجتماعية.
حفظ الحرمات والحقوق
الحياء يزرع في النفوس احترام حقوق الآخرين، ويمنع من الاعتداء على الأعراض أو الأموال.
تعزيز التكافل الاجتماعي
المجتمع الذي يسوده الحياء يتعاون أفراده على الخير، ويتجنبون الظلم والفواحش، وذلك يُثمر في تحقيق الترابط والمحبة.
وسائل تعزيز الحياء
- مراقبة الله تعالى في السر والعلن، كما قال النبي ﷺ: “استحيوا من الله حق الحياء…”.
- التفقه في الدين؛ لأن العلم يُعزز الإيمان، ويُظهر أهمية الحياء كخُلُق ديني واجتماعي.
- الصحبة الصالحة، فمصاحبة الأتقياء تُذكّر بالله وتعزز الفضائل في النفس.
- الابتعاد عن مظاهر الفساد؛ لأن الانغماس في الفتن يُضعف الحياء ويُذهب نوره.
قصص عن الحياء في الإسلام
حياء النبي ﷺ
كان النبي ﷺ مضرب المثل في الحياء، حتى وصفه الصحابة بأنه أشد حياءً من العذراء في خدرها، ففعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “كان النبي ﷺ أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه.” (رواه البخاري ومسلم).
حياء عثمان بن عفان رضي الله عنه
عثمان بن عفان (ثالث الخلفاء الراشدين) عُرف بلقب ذي النورين لشدة حيائه وورعه، فالنبي ﷺ قال عنه: “ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟” (رواه مسلم)، وذات يوم دخل النبي ﷺ على عثمان، فوجده جالسًا، فلما أراد أن يتحدث إليه جلس معتدلًا وشد ثوبه، فلما سئل عن ذلك، قال: “كيف لا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟”، وعثمان رضي الله عنه كان إذا اغتسل حرص على أن لا يراه أحد.
في الختام، قدمنا لكم معنى الحياء في الإسلام وأثره على المسلم والمجتمع، ونجد أنه يبقى تاجًا على رؤوس المؤمنين، ودرعًا يحمي القلوب من الانزلاق في مهاوي المعاصي، وزينة تعكس جمال الأخلاق وروعة الإيمان، فالحياء نور ينبع من الإيمان بالله ومراقبته، وشُعبة من شعب الإيمان التي بها يكتمل صلاح الفرد والمجتمع.
المصدر